موضوع: صرخة أم عراقية ؟ الخميس نوفمبر 15, 2007 9:19 pm
صرخة أم عراقية ؟
بقلم : أحمد منصور ـ الجزيرة
أثناء تغطيتي لحروب أفغانستان والبوسنة والهرسك والعراق كان الجانب الأنساني يأسرني دائما ، فأسوا ما في الحروب ليس تدميرها للقري والمدن فهذه يعاد بناؤها ، ولكن أسوأ ما فيها هو تدميرها للأنسان ، وقد لاحظت مع كثرة التقارير الأخبارية سواء التليفزيونية أم الصحفية التى تقدم عن الحرب فى العراق أن الجانب الأنساني يكاد يغيب فيها ، قليل من الصحفيين والمراسلين من يحاول الدخول إلي النفس الأنسانية وإلي أعماق الأنسان العراقي ليكتشف حجم ومقدار الجريمة التى ارتكبت فى حقه وحجم الدمار الذي لحق بأركان نفسه وجوانبها .
في مطار عمان استوقفتني سيدة عراقية في نهاية العقد الرابع من عمرها ـ وكانت معها ابنتها علي أعتاب الشباب ـ فقالت المرأة لي : لماذا لا تعكسون فى برامجكم وأخباركم الجانب الأنساني لنا في العراق لاسيما للنساء ، أنا اعتقلت من القوات الأمريكية وقضيت ستة أشهر فى سجن أبوغريب ، وابنتي هذه الصغيرة اعتقلت وقضت شهرا في السجن وهناك مئات النساء العراقيات الأخريات لازلن فى السجون الأمريكية والعراقية ربما منذ بداية الأحتلال ، ولايتحدث عنهم أو عن مأساتهن أحد ، وكأن الأمة لم يعد بها نخوة أو غيرة أو رجال ، ورحم الله المعتصم ، ربما أعانني الله وخرجت صلبة في ظاهري علي الأقل ، لكن ابنتي هذه واجهت صدمة شديدة وهي في مقتبل عمرها وأصبحت كأطلال امرأة هرمة وهي بعد لم تبدأ حياتها ، حينما كشفت فضيحة سجن أبو غريب هاج العالم وماج ، ثم خفت كل شيء وانتهي وكأن سجن أبوغريب قد أغلق ، وكأن من ارتكبوا ويرتكبون الجرائم فيه قد توقفوا ، كل شيء علي ماهو عليه لم يتغير شيء سوي أن الناس والعرب والمسلمين تحديدا قد صمتوا ، التعذيب والأنتهاكات التى تحدث علي أيدي القوات الأمريكية أو علي أيدي القوات الحكومية الموالية لها لا تخطر علي بال أحد ، ومن الصعوبة أن تروي ولو رويت ربما لا يصدقها الناس ، إنني في طريقي لحضور أحد المؤتمرات لأروي تجربتي وتجربة ابنتي ربما تلامس آلامي وآهاتي وجراحي أسماع أحد من هؤلاء الصامتين أو الراقصين علي جراحنا ، وسوف أفضحهم وأفضح أفاعيلهم ربما تخفف قليلا عن نساء العراق الأسيرات لدي الأمريكيين أو القوات الحكومية الموالية لها ، ما ذنب ابنتي ومئات مثلها ممن لا يكدن يغادرن طفولتهم حتى يمروا بتلك الصدمة القاسية التى تركتها حطاما كما تراها ؟ ماذنب الأمهات والأخوات والبنات اللائي يلقين فى السجون لأنهن يردن وطنهن حرا خاليا من المحتل ؟ إنهم هم الذين بغوا علينا واحتلوا بلادنا وقتلوا أبناءنا وأزواجنا وآباءنا أو اعتقلوهم ؟ لم يعد أحد آمن فى بلادنا ،
إنني أتمني من كل كاميرات الدنيا أن تأتي وتسجل تلك الآلام التى نعيشها كأمهات عراقيات ، وكيف أصبحت الواحدة تصبح وهي لاتدري من الذي سوف يمسي حيا من عائلتها وتمسي ولا تدري من الذي سوف سيبقي حيا أو غير معتقل من أسرتها ، إنني أتألم وكل أمرأة فى العراق تتألم وكل عائلة تتألم وألمنا الذي سببه المحتل أصبح فى كل شيء ، وأسوأ آلام الحياة هو الخوف وعدم الأمن ، والأسوأ منه الوضع الأقتصادي المتردي ، فالأمهات في كثير من الأحيان لا يعرفن ماذا وكيف يطعمن أطفالهن ، وفرق الموت تنشره فى كل مكان ولا تفرق بين طفل وشيخ وامرأة ، والقوات الأمريكية تظل تحاصر بعض أحياء بغداد لعدة أيام لا يستطيع أحد خلالها أن يخرج من بيته بحجة إلقاء القبض علي مسلحين ، وهم في الحقيقة يحاصرون نساءا وأطفالا وشيوخا وقلة من الشباب الذي يدافعون عن أنفسهم وعائلاتهم من عمليات التطهير المذهبي والعرقي التى يعيشها سكان بغداد ، لم نعرف الطائفية إلا بعد الأحتلال ، لم نعرف الخوف وعدم الأمن بهذا الشكل المرعب إلا بعد الأحتلال ، لم نعرف الجوع والعوز والفاقة إلا بعد الأحتلال ، لقد كنا نعيش حياة رغدة قبل ستة عشر عاما ، وكانت عملتنا تساوي أكثر من ثلاثة دولارات ، وكنا لا نعرف شيئا عن تلك الآلام التى نعيشها الآن والتى أنستنا كل نعيم عشناه .
ظلت المرأة تتحدث وأنا أنصت دون تعليق حتى أعلن المضيف الداخلي في مطار عمان عن النداء الأخير علي رحلتي المتجهة إلي الدوحة ، لم أستطع أن أقول لها أريد أن ألحق بطائرتي فقد كنت مختنقا من الدموع التى كانت تغالبني وخشيت أن أتكلم فأنفجر باكيا ، لكنها استدركت و قالت لي : أعرف أني قد أطلت عليك ولا أريد أن أؤخرك عن طائرتك ، ولكني أستحلفك بالله الذي جمعنا علي غير موعد أن تنقل تلك الصرخة .. صرخة أم عراقية إلي الأمة ربما تصادف صرختي لدي أحد نخوة المعتصم .